المعضلة الأخلاقية للطبقات الوسطى العربية
لا يوجد طريق وسط
إن مظاهر العنف التي اجتاحت الشرق الأوسط شتت انتباه العالم من التبعات والتغيرات الكارثية التي ستنتقل لكافة المجتمعات العربية. هذه التغيرات ستواجه الطبقات الوسطى العربية مع صعوبة الخيارات وصعوبة تشكيل المنطقة مستقبلا.
نقطة التحول هذه نشأت من التحولات الخفية نسبيا في السياسات الاقتصادية للحكومات. في العامين الماضيين بدأت عدة بلدان في شمال افريقيا والشرق الاوسط و الخليج العربي بإعادة هيكلة نظام التعويض في القطاع العام وقلصت برنامج الرعاية الاجتماعية الذي تم ادخاله عام 2011 ذروة الانتفاضات العربية وفرضت ضرائب مباشرة وغير مباشرة وخفضت دعم الطاقة
ستجلب هذه التغيرات ألم اقتصادي كبير للمجتمعات العربية. ومن المحتمل أن تعاود المجموعات الأكثر ضعفا و فقراً القتال من خلال الاضرابات والمظاهرات. رداً على ذلك فإن أنظمة المنطقة ربما تقوم بحشد الناخبين مع خطاب قومي بذات الشعارات لمواصلة انقاذ هذه الانظمة عبر اجراءات صارمة لكنها ضرورية . قبل فترة طويلة جدا فإن العديد من هذه الانظمة لجأت أيضا للاضطهاد السياسي وحملات القمع ضد الناشطين والجماعات التي تحدت سياساتها.
إن الاضطرابات الناجمة ستجبر الطبقات الوسطى العربية لاتخاذ موقف. كما أن أكثرية الافراد المتعلمين الموجودين في المناطق الحضرية في هذه الجماعات سيستفيدون من الاصلاحات الجديدة التي تطور بلدانهم وتحسن أوضاعهم المالية والنقدية. ونتيجة لذلك فإن قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى العربية ربما تحاول اعادة مساندة الدولة. ربما يجدون أن الانظمة الحاكمة كالحصون الضرورية ضد العنف والفوضى التي عمت في اغلب الشرق الاوسط .
لكن من الصعب للطبقة الوسطى أن تضمن أمنها و حظها الجيد على المدى الطويل في الرهان دون شرط او قيد على النخب الحاكمة. تدريجيا ً فإن تأكل الحقوق السياسية والمدنية سيولد الاستياء بين المجموعات الاجتماعية الرئيسية: الفقراء و المجتمع المدني و الشباب العرب المهمشين اقتصاديا. في نهاية المطاف فإن اندلاع الاضطرابات من قبل بعض الفئات الجديدة التي ستجد نفسها كالبجعة السوداء سياسيا و اجتماعيا واقتصاديا وغضبها سيشكل موجة جديدة من الاضطرابات العربية. وسوف تكتسح استقرار البلدان العربية وستطلق العنان لموجة أخرى من العنف وعدم اليقين.
وبالتالي فإن الطبقة الوسطى العربية ستواجه معضلة اخلاقية: تقاعسهم عن العمل بسبب خوفهم من الفوضى و الارهاب والتطرف الديني وبالتالي يكونون قد تغاضوا بشكل فعال عن عودةالانظمة الاستبدادية في العالم العربي. وبالتالي فإن واجبها الاخلاقي يكمن في دفاعها عن الديمقراطية حتى لو كان ذلك يهدد وضعها الاجتماعي والاقتصادي .
معلق في الميزان
لبناء مستقبل أفضل فإنه يتوجب على الطبقة العربية الوسطى مواجهة العديد من التحديات. أولا التركيز المفرط في السلطة في معظم البلدان العربية يضاعف من الفساد و سيكون من الصعب جدا لهم ضمان شكل لا باس به من الاصلاحات. في جميع انحاء المنطقة فإن مؤسسات الدولة ترتبط ارتباطا وثيقا بالأنظمة الحاكمة حتى اذا الاصلاحات اطلقت الاستثمار ووسعت المعروض من رأس المال للقطاع الخاص فإن مجموعات المصالح القريبة من النظام ستستفيد أكثر من الطبقة الوسطى والفقيرة.
ثانيا لآن معظم صانعي القرار الاقتصادي في معظم البلدان العربية يتمتعون بمركزية شديدة فإن الاصلاحات تبدو قصيرة النظر عندما يتعلق الامر في تعزيز النمو على المدى الطويل. كما أن الحكومة لها حرية التحكم في توجيه الموارد الأمر الذي سيساهم للاستثمار في البنية التحتية و الصناعات المحتملة
هذا سيساهم في ارضاء حلفاء النظام الذين يعملون في هذه القطاعات و سيؤدي الى حدوث بعض النمو الاقتصادي لكن هذا النمو سيأتي من صناعات منخفضة القيمة وستكون أكثر بطئاً و غير متكافئة من التقدم المدعم بالبحث والتطوير ورواد الاعمال الذين يقدمون التكنولوجيا و يساعدون في تمكين القطاع الخاص.
يجب عى الطبقة العربية الوسطى ان تجابه حقيقة ان هناك نقصاً في اهدافها السياسية الواضحة وهذا النقص هو سبب تعثر الربيع العربي . و بالامكان مقارنة هذه النقطة في نهاية التسعينات واوائل الالفين فإن الطبقة الوسطى في شرق ووسط اوروبا تحملت بهدوء ألم التعديلات الاقتصادية الضرورية كي تنضم للاتحاد الاوروبي وكان ذلك الهدف الذي ألهم المواطنين للتضحية. يتوجب على المواطننين العرب أن يتحملوا الالم الاقتصادي الذي سيأتي عبر اصلاحات بعد عقود من سوء الادارة. لكن انعدام وجود هدف سياسي تجعل الأمر لايستحق ذلك العناء أي أنه بدون توسيع للحريات السياسية و التخفيف من حدة المعاناة الاجتماعية التي كانت سببا أوليا في تفجر الثورات العربية . ومالم يترافق الاصلاح السياسي مع الاصلاح الاقتصادي فإن السبب المنطقي للتضحية يبقى ضعيفاً.
مما يزيد المشكلات تعقيدا أن الادوات التي تمتلكها الطبقة العربية الوسطى كي تمارسها للضغط على انظمتها محدودة . بالرغم من ان الانتفاضة العربية بدأت في السنوات الثلاث الماضية كانتفاضة لجيل الشباب ضد الفساد والسياسين غير الكقؤين وتحولت على وجه السرعة لحركات موسعة للطبقة الوسطى ضد النخبة الحاكمة التي تعيق التنمية ومن ثم تغيرت مرة ثانية هذه المرة انوجدت في هذه الحركات انقسامات بشكل عميق على اسس دينية وطائفية وكنتيجة لهذه النتيجة المدمرة فإن الطبقة الوسطى لم تعد تجد بالانتفاضة خيار سياسي قابل للحياة.
كما أن الطبقات الوسطى العربية تفتقد للخبرة. وجميع المجموعات اليوم تقع تحت هذا التعريف الذي نشأ على مدى اربعة عقود ماضية خلال فترة حكم غير ديمقراطي وانعدام المساواة الاجتماعية و التعدي على المجتمعات المدنية في كافة انحاء المنطقة. على عكس البلدان في البرازيل و الهند والبرتغال وجنوب افريقيا التي خضغت لحرية سياسية مثيرة للاعجاب على مدى ثلاثين سنة الماضية إلا أن الطبقات العربية الوسطى لم تطور خبرتها ودهاءها السياسي ليتفق مع نفوذها الديموغرافي والاقتصادي.
أخيرا فإنه يتوجب على الطبقة الوسطى أن تجيب على ثلاثة أسئلة تتمحور حول وضعها في المجتمع العالمي كما لو أن لها دور في قيادة بلدانها في العالم.
السؤال الاول كيف ستتصرف حيال اسرائيل بما أن لدى حكوماتهم عين قلقة على الصراع العربي الاسرائيلي المستعصي مع عدم وجود حل في المدى القريب فإن موقف الطبقة الوسطى يمكن أن يحدد فرص السلام أو أن يقود لحرب واسعة في الشرق الاوسط
السؤال الثاني كيف ستكون ردة الفعل تجاه الصراع الطائفي اذا كانت الطبقة الوسطى تساهم في الخصومة بين الشيعة والسنة وتأجج الصراع في العراق ولبنان وسورية مما يبشر بمزيد من الصراع الدموي في الشرق الاوسط. وثالث سؤال هو حول وجهة نظرها حيال الولايات المتحدة البلد الذي عبر شراكتها الوثيقة مع معظم الدول العربية تحدد النظام الاقليمي القائم وسيساعد في تحديد فيما اذا كان هذا النظام سينجح أو سيفشل.
على الهامش :
بطبيعة الحال فإن الخيارات من قبل الطبقة الوسطى العربية تختلف استنادا لتدابير التقشف لكل بلد بحسب قوة شبكة الامان الاجتماعي و خفايا الانظمة السياسية كل على حدة . وبالتالي فإن الاستجابة من كل مجموعة فرعية في كل بلد فيه طبقة وسطى سيكون مختلفا. فعلى سبيل المثال ربما نجد أن كبار موظفي الخدمة المدنية ورواد المشاريع الناجحين سيدعمون اصلاحات الحكومة أكثر من موظفي القطاع العام والمتقاعدين واصحاب مشاريع الاعمال الصغيرة والمزارعين لكن بغض النظر عن تميز شخصية كل بلد فإن الطبقة الوسطى العربية ستكون بحاجة لمواجهة لمشكلات الاقتصادية الجديدة التي ستنشئ.
العالم العربي قادم للغليان و بوجود مشاكل اقتصادية ونقص في الانفتاح السياسي سيزيد من درجة الغليان, في هذه اللحظة تظهر الطبقات الوسطى في المنطقة كمراقبين سلبيين . لكن خياراتهم في السنوات القادمة ستتحمل النتائج الاساسية لبلدانهم اقتصاديا وحكوميا وكعلاقات خارجية ناهيك عن المسار النهائي لموجة جديدة من الفوضى ستجتاح المنطقة كافة.
ترجمة: إيفلين المصطفى
نشرت هذه الترجمة للمقالة للحفاظ عليها من الضياع
Comments are closed.