نأسف المريض يحتاج إلى حمية
افتتحت عدة مطاعم أبوابها ,الأول اختص بالأطعمة الأوروبية والثاني بالأطعمة الأسيوية والثالث اختص بالمطبخ الصيني. اكتشفت المطاعم أن لديها زبوناً مفضلاً اعتاد على الشراء بكميات أذهلت الجميع.زادت المطاعم من عدد عمالها وابتكرت انواع عديدة من الأطعمة والتحلية . واستمر الزبون بالاستهلاك أكثر. اقترضت المطاعم من البنوك وأضافت أطباقاً جديدة.
ولكن بعد فترة لاحظت المطاعم أن الزبون بدأ يتأخر في التسديد ,ففتحت له عدة حسابات ائتمانية فزاد ذلك من شهيته وعاود الاستهلاك بشكل مفرط. في أحد الأيام سرت شائعات بأن الزبون يعاني من مرضٍ ما. اجتمع على أثر ذلك مدراء المطاعم وقرروا ايفاد أكبرعدد من الأخصائيين للمعالجة. وانتظروا ساعات على الأبواب ,وجاءهم الخبر كوقع الصاعقة ,نأسف المريض بحاجة إلى حمية قد تطول.
هذا ملخص الوضع الاقتصادي العالمي لايمكن أن تتوقع كل من ألمانيا واليابان والصين وغيرها من البلدان بالاستمرار بالنمو الاقتصادي على حساب تنمية الصادرات إلى بلد تزداد فيه نسبة العجز الميزان التجاري الشهري ليتضاعف إلى ثمانية أضعاف في خلال عقد واحد!!
من يدعي أنه تفاجأ بالأزمة المالية الحالية فعليه أن يعاود دراسة الاقتصاد من جديد. لم تُخفي الولايات المتحدة أن قيمة العجز في الميزان التجاري الشهري trade balance وصل إلى 60 مليار دولار. وكذلك لم تُخفي العجز في الميزانية السنوية الذي شارف على التريليون دولار.
لقد ارتضى شركاء الولايات المتحدة التجاريين أن يكون المحرك الأساسي للاقتصاد العالمي هو اقتصاد بلد قائم على استيراد أكثر مما يصدر ب 600 مليار دولار سنوياً ,بل ارتضوا أن يُقرضوه هذا المبلغ.
وفي جواب عفوي لأحد الاقتصاديين الأمريكيين رداً على سؤال متى يتناقص عجز الميزان التجاري مع الصين فكان جوابه حين يُدرك الصينيون أنهم يصدرون لنا مواداً وأجهزة ونعطيهم مقابلها أوراقا لا تكلفنا شيئاً ويتبرعوا باقراضنا إياها من جديد.
إن العلاقة بين الصين وأمريكا كعلاقة الزوجين الذين لايمنعهما من الطلاق إلا كلفته فيضطران للعيش معاً على مضض. لقد كانت صادرات الولايات المتحدة للصين عام 1985 حسب مكتب الاحصائيات الأمريكي تعادل 3.8557 مليار دولار بينما تستورد 3.8617 فكان الفرق 6 مليون دولار. بينما وصلت في عام 1995 الصادرات الأمريكية 11.7537 مليار دولار واستوردت من الصين 45.543 مليار دولار أي أن العجز في الميزان التجاري ارتفع في عشر سنوات من 6 مليون دولار إلى 33.789 مليار دولار أي تضاعف في عقد واحد أكثر من 5000 ضعفاً.
وفي عام 2007 بلغ حجم الصادرات الأمريكية إلى الصين 65.238 مليار دولار بينما استوردت من الصين بقيمة 321.5 مليار دولار أي ارتفع العجز في الميزان التجاري إلى 256.3 مليار دولار أي تضاعف في 12 عاماً بأكثر من 9.5 ضعفاً.
ماذا تدلل هذه الاحصاءات ؟ تدل هذه الاحصاءات أن أكثر من 15% من الناتج المحلي الصيني مخصص للتصدير إلى أمريكا. صحيح أن الصين أصبحت تتنافس مع اليابان على المرتبة الثانية من حجم الناتج المحلي القومي في العالم وستصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم ولكن ذلك بفضل الصادرات التي تذهب إلى أمريكا وغيرها من الدول .
إن هناك أمر لم يُعطي له كثير من الاقتصاديين أهمية كبيرة ,وهو أن كثير من هذه الصناعات تُحتتسب من أرباح الاستثمارات الأمريكية التي تعيدها الشركات المتعددة الجنسيات إلى الوطن الأم أي الولايات المتحدة, وتدخل في حساب الناتج المحلي الأمريكي.
والأكثر غرابةً أن كثير من المنتجات الصينية ذات الكلفة القليلة تدخل إلى الدورة الاقتصادية الأمريكية ,من خلال المستوردين والموزعين والدعايات و تجار المفرق لتصل إلى الزبون الأمريكي بسعر يتناسب مع لو كان يُنتج في أمريكا. أي أن العامل الصيني يتقاضى ثمن انتاج الحذاء الرياضي بسعر زهيد جداً ولكن الزبون الأمريكي يدفع سعره بسعر عال نسبياً . ويستفيد خلال ذلك الكثيرون, فنجد أن المنتجات الصينية التي دخلت حلقة الاقتصاد الأمريكي الخدماتي تُساهم بعدة أضعاف حجمها في احتساب الناتج المحلي الأمريكي.
هل يمكن الاستمرار بهذه الطريقة؟ لقد تعلم أصحاب المطاعم في المثال الذي ضربناه في أول المقالة درساً قاسياً. لا أحد يُمانع أن يقرر الشعب الأمريكي نقل كل الصناعات إلى خارج حدوده . لكن إن تطبيق المعايير المًنصفة يتطلب أن يعيش الشعب الأمريكي على قدر بساطه. كما يحتاج المريض إلى حمية فإن الشعب الأمريكي يحتاج إلى من يسدي له النصيحة بالخروج من النمط الاستهلاكي المفرط consumerism الذي جعل الاقتصاد الأمريكي يعتمد على الاستهلاك مما جعل الشعب الأمريكي الأقل ادخاراً في العالم.
بقلم: الدكتور نادر الغنيمي
موضوع رائع جداً كالعادة بالتوفيق ، وفي إنتظار المزيد من الموضوعات القيمة .
معلومات مهمة وشيقة ،بالتوفيق