المضاربات ودورها في إضطرابات الأسواق
كثر الحديث مؤخراً عن المضاربات ودورها في اضطرابات الأسواق ورفع الأسعار لمعظم السلع الأساسية. وسنحاول هنا أن نطرح الموضوع بحياد تام لبيان حقيقة هذه الإتهامات . ولابد قبل ذلك من بيان تاريخ نشأة الأسواق الآجلة ودورها في تطور عمليات المضاربة.
نشأت الفكرة على شكل معارض تعرض فيها البضائع وتحدث فيها بيع وشراء. ثم افتتح في لندن سوقاً في عام 1570 سمي سوق التبادل الملكي The Royal Exchange الذي تحول فيما بعد إلى سوق لندن لتبادل السلع London Commodities Exchange
منذ ذلك الحين ظهر المضاربون الذين رضوا أن يقوموا بدور الوسيط الذي يقبل المجازفة بتغيرات السعر تلك المجازفة التي حاول التجار تفاديها بإعطاء الفرصة للمضاربين بتحمل المخاطرة على أمل أن يحققوا أرباحا فيما بعد. بدأت في ذلك الحين نوعا من الرقابة على نوعية البضائع وكان البائعون واثقين من إمكانية توفير أسواق لسلعهم وكان الشارين يتوقعون ان يحصلوا على سلع ذات مستوى محدد سلفا وفق مواصفات متفق عليها. في اليابان نشأ اول سوق آجل وكان البيع فيه وهميا أي لايوجد تسليم فعلي إذ كان ممنوعا عام 1730 وفي عام 1869 سمح بتسليم البضائع.
بدا التعامل في سوق شيكاغو في 13 آذار 1851 حيث سجل أول عقد آجل ل 3 آلاف مكيال ذرة لقد تم اختيار شيكاغو لقربها من مراكز الانتاج وتم اختيار نيويورك لأنها ميناء بحري ولقربهما من طرق المواصلات الأساسية.
إن دور المضارب في السوق الآجل لا يختلف كثيرا عن التعويضات التي تأخذها شركات التامين على شكل أقساط شهرية مقابل تحملها مخاطر الحوادث والحريق. فلقد لعب المضاربون دوراً كبيراً في الأسواق.قبل وجودهم كان المزارعون يضطرون إلى تصريف محصولهم بالسعر المعروض علماً بأن السعر ينخفض موسمياً حين يكتمل الحصاد لكثرة العرض.فأتاح لهم سوق التعامل الآجل بأن يبيعوا محصولهم على مدار السنة.. وكذلك وفر المضاربون في السوق السيولة اللازمة لسهولة التداول.
كذلك وفر المضاربون في السوق الفرصة لشركات الأغذية والشركات البترولية وحتى شركات الطيران وغيرها بأن تقوم بحماية أرباحها بتثبيت سعر الكلفة عليها بالشراء من سوق الآجلة وتقوم بحساب كلفة إنتاجها بشكل أدق وبذلك يمكن التنبؤ بالأرباح. لقد أصبحت الأسواق مستقلة بحد ذاتها وكثير من المعاملات لا تتم الإ بهدف الربح والمضاربة وتشعبت كثيراً وظهرت أسواق الخيارات وأسواق المشتقات. Options Markets and Derivatives Markets وكلها تعتمد على رغبة الصناعيين والبنكيين من تقليل تعرضهم للمخاطر بنقلها إلى طرف آخر يرضى بتحملها مقابل عوض معين. Premium paid in exchange of risks taking.
إن المدافعين عن الأسواق الآجلة والمضاربة يذكرون ومعهم جانب من الحق أن هذه الأسواق لعبت دوراً في تأمين الإستقرار في الأسواق إذ جلبت لها المزيد من المتعاملين الذي زادوا من سيولة السوق.لكنه لايمكن لأي باحث أن يغفل أنه طرأت تغييرات عميقة في الأسواق أدت إلى تغيير كبير في آلية عملها .
منذ تاريخ نشأتها وحتى قرب بدء الألفية الثالثة إستمرت أسواق الحبوب والسلع بالعمل بشكل شبه طبيعي مع بعض الإختلالات التي تحدث بين الحين والآخر.نذكر منها بعض الأمثلة كما حدث في سعر السكر في عام 1985 حين بلغ سعر الباوند من السكر إلى أقل من ثمن إنتاجه بالنصف(إذ بلغ6.6 سنتاً للكيلو). كذلك ما حدث في أسعار الفضة حين حاول الأخوين هانت Hunt التلاعب بسعر الفضة برفعه وأدى ذلك إلى إفلاسهم .كذلك ما حدث بسعر البلاديوم قبل نهاية القرن الماضي. إلا أن آليات المراقبة كانت شبه صارمة وكان المتلاعبون ينالون جزاءهم إما بالإفلاس أو بالتعرض لملاحقة قانونية كما حدث مع شركة سيموتومو Sumitomo اليابانية في منتصف العقد الأخير من القرن 20 وألزمتها الحكومة الأمريكية بدفع تعويضات لكل من تضرر من تلاعب الشركة بأسعار النحاس من المتعاملين بالأسواق الآجلة في مختلف أرجاء الأرض.
بعد إنهيار النظام المالي المقترن بالذهب بقرار من الرئيس الأمريكي نيكسون عام 1971 إنتعشت أسواق العملات وإزداد التعامل فيها.وفي العقد الأخير من القرن العشرين بلغ حجم التداول اليومي بالعملات ما يقارب التريليون دولار وهو يفوق بأضعاف حجم التعاملات التجارية إذ بلغ حجم التبادل التجاري للعالم كافة في نهاية عام 2007 13.7 ترليون دولاراً.
لقد إزدادت شعبية التعاملات بالعملات بعد أن إستطاع بعض المضاربين من الإنتصار على البنوك المركزية التي كانت في بداية التسعينيات تحاول دعم عملاتها أمام هجمات المضاربين.كما حصل مع المضارب جورج سوروس Soros الذي حقق بيوم واحد ربحاً تجاوز المليار ونصف جنيهاً إسترلينياً حين إستطاع المضاربون إجبار البنك المركزي الإنكليزي من الخروج من النظام المالي الأوروبي المعروف ERM وتخفيض الجنيه امام المارك الألماني بنسبة 15%في يوم واحد.
لقد فتح هذا الإنتصار شهية المضاربين على البحث عن أماكن أخرى ولكن هنا نشأ شيْ غريب وهو تكتلات مضاربين يعملون سوياً بشكل مجموعات قامت بالمضاربة على عملات دول أخرى كما حدث مع العملات الأسيوية في عام 1996. كذلك أدركت بعض أجهزة الإستخبارات أنه تم صنع سلاحاً جديداً يمكن الإستفادة منه لأغراض سياسية ويمكن زعزعة بعض الإقتصاديات بإستعماله بشكل مستتر.
في بداية الألفية الثالثة أدت عوامل عديدة إلى توفر سيولة مالية ضخمة جداً ساهم فيها السيد آلان غريسبان رئيس الإحتياطي الفدرالي الأمريكي.كذلك ظهرت أفكاراً وآليات حديدة في اسواق مضاربة العملات وهي مايعرف Carry trade وأصبحت ذات شعبية لدرجة أنها تحصل بشكل دفعات متناسقة .ولشرح هذه الآلية لابد أن نتذكر أن صناديق التحوط تعمل غالباً بما يعرف بآلية الرافعة Leverage أي أنها ب10% تغطية تقوم بالتعامل بمايعادل 100%.
وتقوم هذه الصناديق مثلاً بإقتراض عملة ذات فائدة منخفضة كالين الياباني (فائدة 1.5%) أو الفرنك السويسري وتبيعها في الأسواق وتشتري مقابلها عملة ذات مردود فائدة عالٍ كالدولارالإسترالي(فائدة 7.5%)أو الدولار النيوزلاندي (8.25%).بهذه الطريقة تؤمن هذه الطريقة للمضارب فرق الفوائد على عشرة أضعاف مبلغه الأصلي أي أنه يقبض 75% فوائد على الأسترالي ويدفع 15% على الين .أي أنه حقق عائداً قدره 60% سنوياً. أدت هذه الفكرة إلى الإقبال على العملة الإسترالية والنيوزلندية مما أدى إلى إرتفاعهما أمام الين منذ بداية القرن إلى 100% فشكل ذلك ربحاً إضافياً.
بالرغم من أنه بلغ حجم التعاملات بالعملات منذ بداية القرن أكثر من تريليون ونصف دولاراً 850 بليوناً منها في أسواق لندن إلا أن هذا الحجم الهائل بالرغم من عدم الحاجة إليه فعلياً تجارياً لا يشكل إلا 4% من حجم الكتلة المالية الموجودة في العالم.أي أن عامل التأثير يمكن التقليل من آثاره خاصةً أن البنوك المركزية بدأت تتعاون لدرء خطر تغييرات كبيرة مفتعلة.هذا الكلام لاينطبق على أسواق السلع الأخرى!
فبعد أن هبط مؤشر الناسداك Nasdaq في بداية هذا القرن و بعد تبخر فقاعة أسهم شركات الإنترنت dot.com bubble burst وبقاء بقية الأسهم في تذبذب مُحبط للمتعاملين قام البعض بتوجيه إستثماراتهم مستغلين الحجم الهائل للسيولة النقدية العالمية وقاموا بتأسيس صناديق تحوط للإستثمار بالسلع الغذائية والمعادن والنفط.
إذا قمنا بحساب سعر ما ينتجه العالم لمدة عام من القمح أي 650 مليون طناً من القمح بالسعر الحالي فإن إجمالي السعر لا يتجاوز 200 بليوناً من الدولارات. وكذلك لايتجاوز سعر إجمالي إنتاج العالم من الذرة المئتي بليوناً أما الأرز فلا يتجاوز الثلاثمائة بليوناً . إن المشكلة تكمن هنا فحين إنصبت أموال المضاربين الهائلة على هذه الأسواق أصبحت تتزاحم على سلع محدودة تقابلها تريليونات من المال السهل الذي يهدف إلى الربح العاجل وهذا سيؤدي حتماً إلى إرتفاع الأسعار لأن حجم المال أضعاف قيمة السلع.
ونضرب بعض الأمثلة فحين ظن البعض أن هناك إحتمال أن يحدث جفافاً في العالم قام المضاربون بشراء القمح بشكل كبير أضعاف ما ينتج وتفوق الحاجة البشريةمما أدى إلى إرتفاع سعر القمح إلى أرقام قياسية وصل البشل bushels(27.5كغ) فيها في سوق شيكاغو إلى 13$ ولكن حين تبين أن الإنتاج لعام 2008 سيكون الأوفر منذ بدء الخليقة إذ قدر بحوالي 650 مليون طناً هبط سعر القمح بشكل حاد وأصبح 7.6 للبشل.
حصل الأمر نفسه مع الذرة فحين حصلت الفيضانات هذا العام 2008 في حزيران في وادي الميسيسبي قام المضاربين بالتهافت على شراء الذرة فوصل إلى رقم قياسي تجاوز 8$ للبشل (25كغ ) ولكن حين إنحسر الفيضان (الذي كان يؤثر فقط على ما يعادل 25 مليون طن وهو جزء لا يذكر من إنتاج الولايات المتحدة الذي يبلغ وسطياً 330 مليون طن) تبين أن المزارعين عاودوا البذار من جديد فعاود سعر الذرة إلى الهبوط بأكثر من 25% وبلغ 5.9 $ للبشل في غضون 3 أسابيع.
إن ما حدث هو حصول إنفصام ببين السوق وواقع العرض والطلب.لم تعد الأسواق تمثل واقع المنتجين والمستهلكين من شركات ومصانع بل أصبح المضاربون يشكلون القسم الأساسي من الأسواق.فلقد تبين لللجنة التي شكلها الكونغرس الأمريكي أن نسبة المضاربين في اسواق البترول بلغت 71% وتقاسم ال29% الباقية كل من المنتجين والمستهلكين!!هذا ينطبق بشكل أكبر على السلع الغذائية.
لم تعد الأسواق تعكس الواقع إنما أصبحت تعكس توقعات وجشع المضاربين وأصبحت الشائعات (المغرضة أحياناً) تلعب دوراً كبيراً في ذلك.إن الأزمة التي تعانيها الأسواق ناتجة عن هذا الإنفصام بين الواقع والتعامل في الأسواق.أصبح التعامل الورقي والتداول يفوق أضعافاً حجم السلع ولم يعد المتعاملون في الأسواق يأبهون للواقع فأصبحت للأسعار واقعاً آخراً وآلية عمل منفصلة. لم يعد احداً يأبه لما يسمي أساسيات السوق (Fundamentals) أي دراسة العرض والطلب والمخزون بل أصبح المضاربون يطاردون الأسعار كمن يسابق ظله.وسنذكر في مقال آخر حالات مفصلة وما أدت إليه من حالات إفلاس أحياناً. ونبين فيه بعض الطرق التي يلجأ إليها المضاربون.
إن ما وصلت إليه الآن أسواق المضاربة تشكل تحدياً للنظام الرأسمالي العالمي. لأنه إذا لم توضع حلولاً جدية فنحن مقبلون على تفجير من الداخل لهذا النظام.
ولكي نكون منصفين فلا بد أن نذكر أن هناك من أعضاء الكونغرس من يحاول أن يضع حلولاً وتشريعات للحد من هذه الظاهرة ولكن للأسف فإن اللوبي القوي للمضاربين يقوم بتضليل المشرعين .ويحاول الكونغرس أن يصدر تشريعاً سيتم عرضه عليه للحد من المضاربة على البترول.ولا يخفى على أحد أن هناك العديد من المتضررين من هكذا إجراء.
كتبها: د.نادر الشيخ الغنيمي
مجهود رائع اخي الكريم