ما الرابط المُدهش بين الخيال العلمي وتاريخ الاقتصاد؟
قبل نحو 200 عام، في عام ١٨١٦، بدأت فتاة في سن المراهقة تدعى “ماري شيلي” كتابة رواية (فرانكنشتاين) في فيلا في مدينة كولوني الأمريكية، والتي تقع على بعد مسافة قصيرة من مكان انعقاد المنتدى الاقتصادي العالمي اليوم.
كُتبت رواية “فرانكنشتاين” في نهاية الثورة الصناعية الأولى، حيث عبّرت عن مخاوف وقلق المجتمع الذي يمر بتحولات هائلة. اُستلهمت الرواية من منتقدي عصر التصنيع، من بينهم “جون ميلتون” و”صمويل تايلور كوليردج”.
كيف توقّع الكتاب كلًا من الطائرات المروحية وجهاز iPad
اليوم، يُنظر إلى رواية فرانكنشتاين على أنها كانت بداية ظهور نمط جديد من الأدب.
تعتبر أول عمل روائي في الخيال العلمي. فمن خلال الجمع المبتكر بين جديّة العلم وعفوية الخيال، يلعب هذا النوع دورًا كبيرًا في التعبير عن الآمال والمخاوف التي نستعرضها في إبداعاتنا.
أفضل قصص الخيال العلمي مزيج اثنين من المكونات:
الأول هو العلم العظيم الذي يؤدي في بعض الأحيان إلى دقة مدهشة:
تخيل “جول فيرن” طائرة مروحية في أوائل القرن التاسع عشر، عندما كان المنطاد هي آخر ما توصل إليه علم الطيران!
وفي ستينات القرن الماضي، تصور “آرثر س. كلارك” جهاز الـ iPad، وتنبأ الكاتب راي برادبري بالهبوط على المريخ.
وربما يكون الأمر مجرد مسألة وقت حتى تكون “Samantha – سامانثا”-الشخصية الأبرز في رائعة (سبايك جونز): Her 2013– حقيقة!
أما العنصر الثاني هو التعبير عن الآمال والمخاوف المعاصرة.
هذا ما يجعل هذه الكتب والأفلام أدوات عظيمة للتعبير عن مشاعر عصر ما.
ومن بين أفضل الأمثلة الناجحة لقصص الخيال العلمي على الإطلاق، هما سلسلتا ستار تريك وحرب النجوم، واللتين جمعتا بين الثقافة الشعبية والتقدم التكنولوجي من جهة والآمال والمخاوف المعاصرة من جهة.
المثالية الكامنة في كون ستار تريك
عُرضت الحلقة الأولى من ستار تريك في عام 1966. في هذا الوقت -بمرور 25 سنة بعد الحرب العالمية الثانية والتي يشار إليها أحيانا باسم “الربع الذهبي”- كانت الحياة تتطور في أوروبا والولايات المتحدة بشكل مذهل، وشهدت ألمانيا (معجزتها الاقتصادية – Wirtschaftswunder)، وصعدت اليابان لتصبح قوة صناعية عالمية.
والنتيجة؟ ظهور ما سُمي لاحقًا بـ الثورة الصناعية الثانية، حيث انبهر العالم بمجموعة كبيرة من العجائب التكنولوجية الجديدة وذلك بفضل الكهرباء ومحركات الاحتراق الداخلي. وربما تكون طائرة الكونكورد هي الأكثر شهرة:
فقبل بداية القرن العشرين، كانت السرعة القصوى لسفر الركاب 25 ميل في الساعة.
وبحلول عام 1900، وصلت سرعة السيارات إلى 100 ميل في الساعة. لكن عندما انطلقت طائرة الكونكورد في عام 1969، وصلت سرعتها لـ 1400 ميل في الساعة!
لم تكن تلك التطورات محصورة فقط في التكنولوجيا، ولكن أيضًا في السياسة والمجتمع والثقافة: حيث أُنشأت منظمة الأمم المتحدة، وحازت العشرات من الشعوب المستعمرة في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط على استقلالها السياسي، وولدت حركة الحقوق المدنية.
لم يكن عالم ستار تريك عالمًا من التقنيات المدهشة فحسب. بل كان عالمًا من المثالية الأفلاطونية، وغياب الطبقات الاجتماعية والانقسامات بين الجنسين والأعراق، وهو اتحاد كوكبي يحكمه القانون. وقد ولّدت السلسلة إيمانًا عميقًا بالتكنولوجيا كمحافز للتقدم المجتمعي. صحيح أن السبيل إلى تحقيق التقدم ينطوي على مخاطرة كبيرة، ولكن ما ينطوي عليه من فرص يستحق تلك المخاطرة.
كما صرخ الكابتن جيمس تي كيرك بحماسة في الموسم الثاني:
“ Risk! Risk is our business. That’s what this starship is all
“خطر! الخطر هو عملنا. وهو الفكرة من وراء هذه المركبة! “
جلب هذا التقدم الكبير معه أحلامًا أكبر. أصبحت حقول القوة ومحركات الانحناء الزمكانية تعبيرات شائعة، وأكدت المجلات ذات السمعة الطيبة لقرائها أن المستقبل سيصل بالمستعمرات إلى المريخ.
لكن سرعان ما انطفئت جذوة الحماس: ففي 15 أغسطس 1971، ألغى الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون التحويل الدولي المباشر من الدولار الأمريكي إلى الذهب. انهار نظام (بريتون وودز) الذي تمّ وضعه بعد الحرب. بعد ذلك بوقت قصير، تأثر الاقتصاد العالمي بأزمة نفطية أدت إلى تراجع النمو الاقتصادي والعمالة بشكل كبير. أدت الأزمة المزدوجة المتمثلة في (ارتفاع التضخم – انخفاض العمالة) إلى هدم الثقة في السوق وفي قدرة الحكومات على انقاذها.
بعد عقدين من النمو الاقتصادي السريع، بدأت أزمة استغلال الموارد الطبيعية في الظهور. بعد عام من صدمة نيكسون، نشرت منظمة نادي روما تقرير “حدود النمو”: وهو تقرير مشهور يحذر من كارثة بيئية ما لم يقم القادة بإيقاف استخدام الموارد بشكل نهائي. بدأت حركة السياسة الخضراء للدفاع عن البيئة في التشكيل. فجأة، أصبحت التكنولوجيا جزءًا من المشكلة، والتي تعمل على إرهاق كلًا من الكوكب والإنسان. ثم جاء كتاب “المستقبل الصادم” الأكثر مبيعًا في عام 1970 ليضرب على وتر حساس عندما أعلن أن أدمغتنا لم تكن على استعداد جيد لمثل هذا التغيير.
حرب النجوم: التجسيد الفنيّ لكوابيسنا
شكّلت هذه التطورات الأساس الذي بُني عليه فيلم حرب النجوم الأول. ومع صدوره عام 1977، سرعان ما تصدّر شباك التذاكر وبات الفيلم الأعلى ربحًا على الإطلاق. إن المقارنة بين اللغة البصرية لكلا الرائعتين تكشف كل شيء: تتحول الألوان المُشرقة لأسطول ستار تريك إلى قتامة دارث فيدر. ويتحول التعايش إلى حرب أهلية. والأحلام إلى كوابيس. وفي حين استمر ستار تريك في اجتذاب عدد كبير من المتابعين، حوّل الجيل الجديد من أفلام الخيال العلمي الفضاء من مصدر للدهشة والمغامرة إلى انعكاس لأسوء كوابيسنا. وفي عام 1979 تحوّل الفضاء –بحسب فيلم الدخلاء- إلى المكان الذي “لا يستطيع أحد أن يسمع صراخك فيه.”
تتشابه سنوات نيكسون كثيرًا مع وقتنا اليوم: التهديدات التي نواجهها اليوم -من تغير المناخ إلى الزيادة السكانية- تشبه تلك التي أبرزتها منظمة نادي روما. وتكثر الآن، كما كان الحال في ذلك الوقت، أوجه الشكّ الاقتصادي والسياسي: فالثقة في الأسواق انخفضت منذ الأزمة العالمية بين عاميّ 2007-2009، وباتت الثقة في الحكومات مهزوزة من انعدام الأمن الجيوسياسي، وتُخلّ التكنولوجيا بسوق العمل في اقتصاد كلٍ من الدول المتقدمة والنامية.
“نحن نؤمن بالابتكار، لكننا تخلينا عن التقدم”
في حين أن هذه المقالة هي تبسيط للتاريخ الاقتصادي الحديث، إلا أنها تساهم في فهمنا لآلية تفكير الناس بالتكنولوجيا. متوسط نمو الإنتاجية منذ الأزمة الاقتصادية العالمية انخفض إلى 1 ٪ أو أعلى بقليل (أقل حتى منه بعد صدمة نيكسون).
لذا فلا عجب أن أحلامنا أخذت منحى أكثر سوداوية. نحن نؤمن بالابتكار، ولكن ليس بالتقدم، والسمة المميزة لعصرنا هي أننا نشعر بأننا نعيش في عصر من الابتكارات التي لم تخطر على بالنا يومًا، ويرجع الفضل في ذلك إلى الفتوحات المذهلة في مجاليّ العلوم والتكنولوجيا، لكن في الوقت نفسه، نشعر بأن هناك حدوداً لا يمكن تجاوزها تأتي على هيئة مخاطر اقتصادية وسياسية وبيئية.
يجب علينا الاهتمام بهذه الهواجس والمشاعر المشتركة، لا كمتحمسين للخيال العلمي، ولكن كمواطنين وقادة.
يمكن للأحلام أن تدفعنا لنُطلق شركات تجارية ونبني مصانع. ولكن يمكنها أيضًا أن تزرع الخوف في قلوبنا، وأن تدفعنا لنغلق أبوابنا وننقذ مواردنا، يمكن أن تعمينا عن الواقع وتغطية على الرعب السياسي الذي نعيشه ولكن -في الوقت نفسه- أن تلهمنا لإنجازات عظيمة.
وكما يقول الروائي دون ديليلو “الرغبة التي تنتظر على نطاق واسع هي ما يصنع التاريخ”
إن التحدي الحقيقي الذي نواجهه لا يتمثل في معركة بين الإنسان والآلة –كما يظنّ البعض- بل هو صراع مع التكنولوجيا التي تحدّ من قدرتنا على صنع مستقبل أفضل.
المؤلف:
- م.طارق الموصللي – مدون ومترجم مستقل يكتب في https://www.almouslli.com
Comments are closed.